فصل: الفصل السابع عشر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدهش في المحاضرات (نسخة منقحة)



.الفصل السابع عشر:

الدنيا دار المحن ودائرة الفتن، ساكنها بلا وطن واللبيب قد فطن.
للمصنف:
من مال إلى الدنيا وصبا ** قد أمعن في الفاني طلبا

خذ ما يبقى كيلا تشقى ** واتبع حقًا ودع اللعبا

وذر الدنيا فلكم قتلتْ ** مكرًا بسهام هوى وصبا

برت ورعت فإذا اجتمعت ** خدعت حتى قطعت إربا

يا عاشقها كم قد نصبت ** لهلاكك فاحذرها سببا

يا آمنها كم قد سلبت ** ولدًا برًا أمًا وأبا

أفأين الجار أما قد جار ** فجارته حتى ذهبا

أم أين التراب أما تربت ** خداه أما سكن التربا

كم خدت خدًا في الأخدود ** وقدت قدًا منتصبا

كم ثغر ملتثم ثلمت ** قد كان لراشفه ضربا

فسقته المر لدى جدث ** وكذاك الدهر إذا ضربا

وأتت قصرًا يحوي نصرًا ** فغدا وقصاراه خربا

ومليكًا في صولة دولته ** أضحى في الحفرة مغتربا

عرج بأمدار على الآثار ** وسل طللًا أمسى شجبا

ينبيك بأنهم رحلوا ** وثوى من بعدهم الغربا

بينا الإنسان يرى رأسًا ** فهوى رأسًا فغدا ذنبا

فتأمل عاقبة الدنيا ** فلعلك تصبح مجتنبا

وتدبر ما صنعت فلقد ** أبدت بصنايعها عجبا

ينساك الأهل إذا رجعوا ** عن قبرك لا تسمع كذبا

تركوك أسيرًا إذ ذهبوا ** بتراب ضريحك محتجبا

وغدوا فرحين بما أخذوا ** وغدوت باتمك محتقبا

وترى أعمالك قد حضرت ** فتنكس رأسك مكتئبا

فكر في الذنب وما احتقبت ** كفاك عليك وما اكتسبا

كم بت على ذنب فرحًا ** وغدوت على ذنب طربا

وعلمت بأن الله يرى ** فأسأت ولم تحسن أدبا

فأعد الزاد فما سفر ** كالموت ترى فيه نصبا

وأفق والعمر به رمق ** فكأن قد فات وقد ذهبا

يا كثير الدرن والدنس، يا من كلما قيل أقبل انتكس، يا من أمر بترك ما يفنى لما يبقى فعكس، جاء الأجل وحديث الأمل هوس، يا مؤثرًا على الصواب عين الغلط، يا جاريًا في أمره على أقبح نمط، يا مضيعًا وقته المغتم الملتقط، أي شيء بقي بعد الشمط؟ أتنسى ما سلف لك وفرط؟ وأبوك بزلة واحدة هبط، ما عندك من التوبة خير ولا لها فيك أثر، تنوب من الذنب، فإذا بدا لك بدا لك.
من علم أن عندنا حسن المآب آب، من خاف الجزاء بما في الكتاب تاب، من حذر اليم العذاب ذاب، من سار في طريق الإيجاب انجاب، من ذكر فعل الموت بالأب والجد جد، من تفكر في مرارة الكأس كاس، ويحك دع محبة الدنيا، فعابر السبيل لا يتوطن واعجبًا تضيع منك حبة فتبكي وقد ضاع عمرك وأنت تضحك، تستوفي مكيال هواك وتطفف في كيل صلاتك {ألا بُعدًا لمدين} تقف ببدنك في المحراب، ووجهك ملتفت للجراب، ما يصلح مثلك في الجرب، أنت تفضح صف الجهاد، ما تحسن الزردية على مخنث خمسين سنة في مكتب التعليم وما حذقت، أبا جاد غدًا توبخ وقت عرض الألواح {ألم نعمركم} بضاعتك أيام عمرك وقد انتهبها قطاع الطريق، ورجعت إلى بيت الأسف بأعدال فارغة، فانظر لعله تخلف فيها شيء تعامل به، فبقية عمر المؤمن لا قيمة له.
سقيا لزماننا الذي كان لنا ** وافقرى أبعد ذا الفقر غنى

مر أسرع ما توقع البين بنا ** واقرب منيتي وما نلت منى

كان فضالة بن صيفي كثير البكاء، فدخل عليه رجل وهو يبكي فقال لزوجته ما شأنه؟ قالت: زعم أنه يريد سفرًا بعيدًا وماله زاد.
يا هذا الآخرة دار سكانها الأخلاق الجميلة، فصادقوا اليوم سكانها لتنزلوا عليهم يوم القدوم، فإن من قدم إلى بلد لا صديق له به نزل بالعراء، يا هذا فتى العمر في خدمة البدن وحوائج القلب كلها واقفة، انهض إلى التلافي قبل التلف، الكلف يداوى قبل أن يصير بهقًا، والبهق يلاطف قبل أن يعود برصًا، أما سمعت في بداية الزلل {إذا مسَّهم طائف} وفي وسطه {كلا بل ران على قلوبهم} وفي آخره {أم على قلوب أقفالها} أتبكي على معاصيك؟ والإصرار يضحك، أتخادع التوبة؟ وإنما تمكر بدينك.
رأيتُ الناس خداعًا ** إلى جانب خداع

يعيشون مع الذئب ** ويبكون مع الراعي

ويحك حصل كبريت عزيمة قبل أن تقدح نار توبة وقبل نزول الحرب تملأ الكمائن ويحك، لا تطمع أن تخرج إلى فضاء قلبك حتى تتخلص من ربقات نفسك، كيف لا يفتقر إلى الرياضة لإزالة الكدر؟ من أول غذائه دم الطمث، ابك على ظلام قلبك يضيء، إذا بكت السحاب إلى الربى تنسمت.
يا هذا، تسمع بالكيمياء وما رأيته صح قط، اجمع عقاقير التوبة في بوتقة العزم، وأوقد تحتها نار الأسى على ما سلف، فإن تصعد منها نفس أسف، صار نحاس نحوسك ذهب سعادة، أترى في بستاننا اليوم أثمر؟ قد توجه صلاحه، كأني أشم ريح كبد محترقة، أي قلب قد لفحته نار الوجد؟ ففاح نسيمه، أحسن مظلوم في سلك الاعتذار خرز الذل، أحلى نطق يلج سمع القبول الاستغفار، أطرب كلام يحرك قلب الرحمة التملق.
يا من بصدودهم لقلبي جرحوا ** وازداد بي الغرام لما نزحوا

ما جدت بهم وهم بهجري سمحوا ** هذا المطروح كم ترى يطرحُ

قال عبد الله بن مرزوق لغلامه عند الموت: احملني فاطرحني على تلك المزبلة، لعلي أموت عليها فيرى ذلي فيرحمني.
عودوا وتعطفوا على قلب كئيب ** لو جيب لبان فيه حزن ووجيب

يدعى للموت في هواكم فيجيب ** من أمل مثل فضلكم كيف يخيب

المذنب يأوي إلى الذل والبكا كما يأوي الطفل إلى الأبوين، بكى أبوكم آدم على تفريطه حتى جرت الأودية من دموعه، كان كلما ذكر الجنة قلق، وكلما رأى الملائكة تصعد، يحترق تذكر المعاهد فحن.
والذي بالبين والبعدُ بلاني ** ما جرى ذكر الحمى إلا شجاني

حبذا أهل الحمى من ساكن ** شفني الشوق إليهم وبراني

كلما رمت سلوًا عنهم ** جذب الشوق إليهم بعناني

أحسد الطير إذا طارت إلى ** أرضهم أو أقلعت للطيران

أتمنى أنني أصحبها ** نحوهم لو أنني أعطى الأماني

لا تزيدوني غرامًا بعدكم ** خل بي من بعدكم ما قد كفاني

ذهب العمر ولم أحظ بكم ** وتقضي في تمنيكم زماني

يا خليلي احفظا عهدي الذي ** كنتما قبل النوى عاهدتماني

واذكراني مثل ذكري لكما ** فمن الإنصاف أن لا تنسياني

وسلا من أنا أهواه على ** أي جرم صد عني وجفاني

.الفصل الثامن عشر:

أيها المشغول باللذات الفانيات، متى تسعد لملمات الممات؟ متى تستدرك هفوات الفوات؟ أتطمع مع حب الوسادات في لحاق السادات؟ وأنى تجعل مثلهم؟ أنى، وهيهات.
يا مدمن اللذات ناس غدرها ** اذكر تهجم هادمِ اللذاتِ

احذر مكايده فهن كوامنٌ ** في كرك الأنفاس واللحظات

تمضي حلاوة ما احتبقت وبعده ** تبقى عليك مرارة التبعات

يا حسرة العاصين يوم معادهم ** ولو أنهم سيقوا إلى الجنات

لو لم يكن إلا الحياء من الذي ** ستر الذنوب لأكثروا الحسرات

يا عظيم الجرأة يا كثير الانبساط، ما تخاف عواقب هذا الإفراط؟ يا مؤثر الفاني على الباقي غلطة لا كالأغلاط، ألك صبر يقاوم ألم السياط؟ ألك قدم يصلح للمشي على الصراط؟ أيعجبك لباس الصحة؟ كلا، وثوب البلا يخاط بداء المتون، داء أعيى على بقراط. كم رحل الموت؟ على غارب اغتراب، كم ألحق تربًا بالأتراب في سفر التراب، إنما الموت مخرنبق ليقول، ومجرمز ليغول.
وكم من فتى يمسي ويصبح آمنًا ** وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري

يا شدة الوجل عند حضور الأجل، يا حسرة الفوت عند حضور الموت، يا خجلة العاصين يا أسف المقصرين.
للحجاج:
إلى حتفي سعى قدمي ** أرى قدمي أراق دمي

فما انفك من ندم ** وهان دمي فها ندمي

استلب زمانك يا مسلوب! وغالب الهوى يا مغلوب! وحاسب نفسك فالعمر محسوب، وامسح قبيحك فالقبيح مكتوب، واعجبًا لنائم وهو مطلوب، ولضاحك وعليه ذنوب.
ألا ذكِّراني قبل أن يأتي الموتُ ** وبيني لجثماني بدار البلى بيتُ

وعرفني ربي طريق سلامتي ** وبصَّرني لكنني قد تعاميتُ

وقالوا مشيب الرأس يحدو إلى البلى ** فقلت أراني قد قربت فأدنيت

أين الدموع السواجم؟ قبل المنايا الهواجم، أين القلق الدائم؟ للذنوب القدايم، أترى آثرت الملاوم؟ في هذه الأقاوم، أيها القاعد والموت قائم أنائم أنت عن حديثنا أم متناوم؟ لا بد والله من ضربة لازم، تقرع لها سن نادم، لا بد من موج هول متلاطم، ينادي فيه نوح الأسى {لا عاصم}، لا بد من سقم السالم ينسى فيه يا أم سالم.
يا من سينأى عن بنيه ** كما نأى عنه أبوه

مثل لنفسك قولهم ** جاء اليقين فوجهوه

وتحللوا من ظلمه ** قبل الممات وحللوه

يا مؤخرًا توبته بمطل التسويف {لأي يومٍ أُجِّلتْ} كنت تقول إذا شئت تبت فهذي شهور الصيف عناقد انقضت، قدر أن الموت لا يأتي إلا بغتة! أليس مرض الموت يبغت؟ ويحك قد نفذ السليط، فاستدرك ذبالة المصباح، في كل يوم تضع قاعدة إنابة، ولكن على شفا جرف هار، كم تعزم على طاعة وتوبة، يا ليلى الهوى ما تبصر توبة، تبيت من العزم في شعار أويس، فإذا أصبحت أخذت طريق قيس تنقض عرى العزايم عروة عروة، كل صريع في الهوى رفيق عروة، كم تدفن كثيرًا من الأعزة؟ وما يرجع كثير عن حب عزة.
جنونك مجنون ولست بواجد ** طبيبًا يداوي من جنون جنون

خلق قلبك صافيًا في الأصل، وإنما كدرته الخطايا، وفي الخلوة يركد الكدر، تلمح سبب هذا التكدير، فما يخفى الحال على متلمح، كنت مقيمًا في دار الإنابة نظيفًا، فسافرت في الهوى فعلاك وسخ، أفلا تحن إلى النظافة؟ ألا يحرك البدوي ذكر نجد؟ طال مرضك واليوم بحران، أتدري ما البحران؟ تجتمع القوة والمرض فيختصمان، فإن تحلبته جاءت العافية، وإن تحلبها فالهلاك، هذه ساعة بحرانك، والعقل يقاوم الهوى، فانظر من يغلب؟ واعجبًا كيف يستأسر أسد لثعلب؟ يا مستهانًا في خدمة النفس، اخرج إلى ديار القلب تعز، الفيلة في الهند عوامل تنقل رجال القوم وتخدمهم، فإذا خرجت إلى من يعرف قدرها. أكرمت، العود في بلاده خشب، فإذا سوفر به إلى طالب الطيب أعز، تفاح أصبهان في بلده فاكهة، فإذا جيء به إلى العراق، دل على الطباع اللطيفة بريحه. الفهد في الصحراء بهيمة، فإذا وقع بيد من يعرفه، غضب فيترضى، البازي في البرية طائر، فإذا صيد فسريره كف الملك.
يا مختار الكون وما يعرف قدر نفسه، أما أسجدت الملائكة بالأمس لك؟ وجعلتهم اليوم في خدمتك، لما تكبر عليك إبليس، وقد عبدني سنين طردته، أفتصافيه على خلافي؟ {أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني} أنا القائل قبل وجود أبيك للملائكة {إني جاعلٌ في الأرض خليفة} اطلعوا من خوخات تعبدكم، فانظروا ما أصنع؟ أخذت قبضة من تراب، فصببت عليها قطرات من ماء {مرج البحرين يلتقيان} قال التراب والماء: وأي قدر لنا؟ فنزل دار تواضعهما عزيز {ونفخت فيه من روحي} فانضم صدف بحر البدن على در القلب، فانعقد فصار عرشًا لصفة «ويسعني».
خلا المثقف بالطفل داخل البيت، فسطر في لوح سره العلم {كتب في قلوبهم الإيمان} وأخرجه يوم التخيير وقد حذق المكتوب {فقال أنبئهم بأسمائهم} ثم قيل له، لا يحتمل موضع الخلع، وجوده ذر البذر، فاخرج إلى عالم الطبع، أكلت يا دودة القز، فاذهبي إلى الغزل، وتشاغلي بالنسج، فنزل إلى دار المجاهدة، فظهر من ثمرة شجرته، صبر الخليل، وثبوت الذبيح، وجهاد يوسف، وكمال محمد صلى الله عليه وسلم، ثم جاء أولياء في هذه الدولة، فخجلت عند زهدهم الرهبة، لا بل سبقوا تعبد الملائكة، قال سري: ما فاتني ورد قط فقدرت على إعادته، وذاك أن الزمان الذي مضى فيه وظيفة أخرى.
ما لي شغل سواه ما لي شغل ** ما يصرف عن هواه قلبي عذل

ما أصنع إن جفا وخاب الأمل ** مني بدل ومنه ما لي بدل

كانت رابعة العابدة، تقوم من أول الليل، وتقول:
قام المحب إلى المؤمل قومه ** كاد الفؤاد من السرور يطير

فإذا انقضى الليل، صاحت: واحرباه، واسلباه.
ذهب الظلام بأنسه وبألفه ** ليت الظلام بأنسه يتجدد

دخلوا على زجلة العابدة، فكلموها في الرفق بنفسها، فقالت: والله لأصلين لله ما أقلتني جوارحي، ولأصومن له أيام حياتي. ولأبكين ما حملت الماء عيناي.
لا أقبل نصحكم فخلوا عذلي ** ما أعذب في الغرام طعم القتل

إن طل دمي فكم محب مثلي ** قد ضرج باللحاظ لا بالنبل

أين أنت والأحباب؟ كم بين القشور واللباب؟ لصردر:
هل مدلج عنده من مبكر خبر ** وكيف يعلم حال الرائح الغادي

يا معجبًا بتعبده، تأمل فضائل السابقين، وقد هدرت شقاشق كبرك النظر في سيرهم قرظ يجفف عفن الرعونة، مضى والله هل المعاني، وتخلف أرباب الدعاوي.
هاتيك ربوعهم وفيها كانوا ** بانوا عنها فليتهم ما بانوا

ناديت وفي حشاشتي نيران ** يا قوم متى تحول السكان